روايات

رواية نبع الغرام الفصل الثاني عشر 12 بقلم رحمة سيد

رواية نبع الغرام الفصل الثاني عشر 12 بقلم رحمة سيد

رواية نبع الغرام الجزء الثاني عشر

رواية نبع الغرام البارت الثاني عشر

رواية نبع الغرام الحلقة الثانية عشر

شعرت بالدنيا تدور بها، والدخان يزداد انتشاره حتى تخلل أنفها بضراوة فشعرت بالاختناق المميت حتى صارت تلتقط أنفاسها بصعوبة، بدأ جسدها يرتخي شيئًا فشيء والوهن يتملك منها رغم أن الرعب لا زال يسكن جنبات روحها برؤية النيران التي تلتهم كل شيء..
هل جربت استرجاع أحداث حياتك كلها وأنت تعلم أنها الثواني الأخيرة لك في هذه الحياة ؟ هكذا كانت هي، يمر أمام عينيها شريط حياتها، واحاسيسها ما بين الرعب والندم والصدمة تتداخل معًا بشكل مُهلك لم يسبق لها أن تعرضت له قبلًا.
وكان أخر ما سمعته هو صوت طرقات عنيفة على الباب وصراخ عدة أشخاص من الخارج خمنت أنهم جيرانهم..
كان “أيوب” في المتجر الخاص به يشرف على الصبية الذين يعملون معه وهم ينظمون البضاعة الجديدة، فأتاه اتصال، وما أن أجاب حتى أخبره أحد جيرانه أن منزله يحترق و…. غرام فيه!
ما أن وردت تلك الخاطرة على عقله حتى شعر وكأنه تم الدفع به في هوةٍ ساحقة فسقط متهشمًا بعنف وتفتت قلبه الزجاجي فداهمه ألم ساحق لم يشعر به يومًا في حياته!

 

هرع بهيستيرية نحو المنزل وهو يدفع كل مَن أمامه، يركض المسافة الصغيرة بين المتجر ومنزله شاعرًا أنها صارت طويلة جدًا فجأة..
وصل أخيرًا بعد دقائق قليلة إلى المنزل، وجد الحشد المجتمع أمام منزله فأخذ يدفعهم بجنون ويدلف، وجدهم قد كسروا باب المنزل لتوهم، فدخل ليجد “غرام” متكومة أرضًا خلف الباب، رقد جوارها بهلع يرفعها بين ذراعيه ويخرج بها، ثم دخل البقية ليبدأون بمحاولة اطفاء النيران..
وبالخارج جلس “أيوب” بها أرضًا وهي بين أحضانه، يتحسس ملامح وجهها الشاحب كالأموات وهو يناديها بصوت تمكنت منه اللوعة حد النخاع:
-غرام، غرام ردي عليا، جومي ردي عليا يا غرام.
أمسك بالمياه التي قدمها له احد الواقفين، وبدأ يرمي قطرات منها على وجهها، ثم نهض يحملها من جديد متجهًا بخطى راكضة نحو السيارة التي ركبها أحد الرجال ليقودها بينما أيوب يضع غرام فوق قدميه بالخلف، كان يشعر أن دقات قلبه في سباق مُهلك مع الزمن لدرجة أنه شعر كل نبضة جديدة صارت كرصاصة قاتلة تتلقاها روحه..
وسؤال وحيد يضخه قلبه المُروع لنفسه ليُغرقها بالفزع.. هل يُعقل أن تتركه… وتموت؟ تتركه وحيدًا من جديد بعدما دست نفسها عنوة في حياته ليعتاد وجودها دون شعور منه !
هز رأسه نافيًا لِمَ توصلت إليه أفكاره، وظل يهزها مغمغمًا بصوت متحشرج مكتوم:
-لا لا، مش هتسيبيني في الاخر !
ثم صدر عنه هذيان ممزق بالندم :
-أنا السبب، أنا السبب.
وصلوا أخيرًا للمستشفى، وتم نقل غرام لغرفة الاستقبال، كان أيوب يدور بلا هوادة أمام تلك الغرفة، وجد ظافر أمامه وقد أتى مسرعًا فالأخبار في هذه البلدة تتناقل بسرعة، وراح يسأله بنبرة يلفحها القلق:
-إيه حصل ؟ مرتك كويسة؟
هز الآخر كتفاه بقلة حيلة وهو يجيب بـ تيه لم يره ظافر عليه سابقًا ابدًا:
-ماعرفش.
فـ ربت على كتفه بخفة وهو يقول محاولًا شحنه بطاقة ايجابية تعوله على الصمود:
-هتبجى زي الفل بإذن الله ماتجلجش.
ظل أيوب يهز رأسه متمتمًا دون أن ينظر له:

 

-يا رب، يا رب.
خرج الطبيب أخيرًا ليُطمئنهم على حالتها، حينها أطلق أيوب نفسًا مرتاحًا لم يدرك أنه كان محبوسًا…
ابتسم ظافر مرددًا بنبرة ودودة:
-الحمدلله إنها چات على كد كدا، ادخل أنت اطمن عليها، وأنا هروح أچيبلكم عصير او حاچة تاكلوها.
هز أيوب رأسه موافقًا بابتسامة باهتة وبدا أنه لا زال تحت تأثير صدمة ما حدث.
دلف للغرفة التي تقبـع بها، لم تكن استعادت وعيها بعد، قرب الكرسي من الفراش الذي ترقد عليه وجلس، رؤيتها بهذا السكون والوهن والاوكسچين على أنفها؛ كانت شاقة ومؤلمة جدًا..
كان جزء من ذراعها الأيمن قد احترق وقاموا بلف الضمادة عليه، أمسك بكفها برقة شديدة وكأنها زجاج يخشى كسره، ثم هبط ببطء يلثم باطن كفها بعمق مطلقًا أنين خافت متوجع مرتعب.
ثم همس بصوت ملكوم وكأنه يحدث نفسه:
-ماكنش ينفع تسيبيني بعد ما لاجيتك، ماكنتش هجدر أعيش الوچع دا تاني.
كان يقصد ألم فقدان والدته، فهو لم يشعر بهذا الألم إلا حينها، فصار هاجسه!
****
بعد خمس أيام….
خمس أيام مروا على “غرام” كربيـع حل فجأة على لياليها الشتوية القارصة ليجعلها دافئة مبتهجة كما لم تكن قبلًا، فـ أيوب منذ خروجها من المستشفى قد أجر لهما بيتًا جديدًا، ولم يغادر لعمله طوال الأيام السابقة، رغم أن حالتها لم تكن سيئة من الناحية الجسدية، إلا أنه كان يرعاها ويهتم بها كأنه يخبئها في محمية طبيعية، حتى أنه يعد الطعام بنفسه لها خاصةً بعد اصابة ذراعها الأيمن الذي لم تستطع استخدامه في هذه الأيام الاولى بسبب الحرق به…
صحيح أنه لم يغدقها باهتمام شفوي ملفوظ ولم يبدِ ندمه رغم أنها تراه يلون ظلام عينيه فيعطيها خلفية شاعرية تعبر عن وجود الحياة بها، بخلاف الجمود والقسوة السابقان، إلا أنها تستطع لمس الدفء الذي يقطر من أفعاله تجاهها مؤخرًا، يُدللها بصمت، وهي لن تطمع بأكثر من ذلك، كما أنها ليست غاضبة منه، فهو بالطبع لم يكن يعلم او يتصور أن المنزل سيحترق في غيابه.

 

كانت ممددة في الفراش، تمسك رواية قد اشتراها لها أيوب مؤخرًا ضمن عدة روايات أخرى لتُسليها، نظرت للرواية مبتسمة.. لا تُصدق أن أيوب الجلف قد اشترى لها روايات أيضًا دون أن تطلب منه!
كانت تقرأ الرواية، ولكن تمسكها بذراعها الأيسر فقط فالأيمن موضوع فوق حروقه مرهم وتعكف عن استخدامه حتى لا تمسحه دون قصد منها، ألمها ذراعها السليم من طول امساكها للرواية، فتركتها وهي تئن بصوت خفيض متألم، لم تدري أنه وصل لأيوب الذي كان يقف أمام المرآة يرتدي ملابسه ويصفف شعره…
فاقترب منها جالسًا جوارها على طرف الفراش، يسألها بقلق ملجوم هادئ صارت تعشقه:
-مالك؟ الحرج بيوچعك؟
هزت رأسها نافية بابتسامة رقيقة وهي ترد:
-لأ، دراعي وچعني شوية بس من مسكة الرواية.
صمت برهة وكأنه يدرس الأمر بعقله، ثم تحرك ليجلس خلفها، وجذبها نحوه برفق هامسًا بخشونة خافتة:
-تعالي.
جعلها تسند ظهرها على صدره الصلب العريض، فانتفض جسدها الغض بتأثر، وهي تشعر بذراعيه تحيط بها من الجانبين حتى أصبحت في حضنه فعليًا، أمسك هو بالرواية بيديه وجعلها أمام غرام مباشرةً بحيث يسنح لها قراءتها دون أن تمسك بها، ثم شعرت بأنفاسه تلفح رقبتها وهو يهتف بنبرة دافئة هادئة:
-يلا كملي جراية.
بدت كمَن أصابها الصم للحظات، تحاول استيعاب ما يفعله بهدوء ودفء من عبث بقلبها الذي ارتجف بشدة!
ثم خرج صوتها مبحوحًا وهي تهمس له:
-أنت كنت خارچ؟
هز رأسه نافيًا ببساطة كاذبة:
-لا.

 

تعلم أنه كاذب، وهذا تحديدًا أثار داخلها رغبة غريبة في أن تقبله شاكرة ذلك الحنان العفوي، وكأن تلك الحادثة مرت عليه كزلزال مدمر زلزل قشرة جموده وقسوته لينساب ما أسفلها من مشاعر حانية.
لم تكن تملك إلا الاستسلام لحضنه الذي غمرها وبعث الدفء والسكينة لروحها، فراحت في النوم دون أن تشعر، نظر أيوب نحوها حين لاحظ تنفسها المنتظم وارتخاء جسدها، ثم برزت ابتسامة صغيرة على شفتيه وهو يشمل ملامحها الناعمة البريئة بنظراتٍ شغوفة، وقَبَل منابت شعرها بعمق قبل أن يبعد الرواية ويجعلها تفرد جسدها لتتابـع نومها…. بين أحضانه!
بعد فترة، استيقظت غرام من نومها لتجد نفسها وحيدة في الفراش، تنهدت وهي تنهض، لترى أيوب وهو يدلف من باب الغرفة حاملًا صينية الطعام، تراجعت على الفور وتجعد جبينها برفض وهي ترى أنه يحمل ” شوربة خضار ” التي أجبرها على تناولها بالأمس، لا ليس مرة اخرى.
جلس أيوب جوارها واضعًا أمامها صينية الطعام، فهزت رأسها نافية على الفور:
-لا مش عايزة.
قال بنبرته الرجولية الرخيمة:
-لازم تاكلي.
عقدت ما بين حاجبيها بحنق وهي تتفوه:
-مش عايزة شوربة خضار مابحبهاش والله.
كان يواصل تجهيز الصينية وهو يتحدث برتابة يُسايرها، عارفًا نهاية ذلك الحوار كالأمس وهي تتناولها مجبرة:
-معلش تعالي على نفسك الفترة دي، أنتي ضعيفة وچسمك ضعيف.
أردفت بيأس تكاد تبكي كالأطفال:
-يا أيوب أنا دراعي اتحرج مش اتكسر والله أنت فاهم غلط، الشوربة دي بيعملوها لما يكون حد اتكسر، او واحدة والدة، وأنا لا دا ولا دا.
تجهمت ملامحه بصرامة وهو ينهرها:
-غرام.
-اهو هطفح ياكش يكون ضميرك مرتاح لما أفضل بجية اليوم بطني وچعاني.
وأمسكت بالملعقة لتبدأ بتناولها مجبرة بملامح مكفهره على وشك البكاء كطفلة في السابعة أجبرها والدها على تناول ما لا تحب، بينما هو ينظر لها مستلذًا بمراقبة كل حركة وأصغر حركة عفوية طفولية منها.
إلى أن انتهت فتنهدت بتعب ونهض أيوب يأخذ الصينية، وقالت بعفوية مغتاظة حين كان عند الباب:
-وعلى فكرة بجا أنت بتعمل الشوربة وحشة جوي.

 

ثم غطت نفسها بسرعة بالأغطية حتى رأسها متوقعه انقضاضه الغاضب عليها، فضحك أيوب دون صوت وهو يواصل سيره نحو المطبخ.
بعد دقائق عاد لها من جديد، ليجدها تحاول تصفيف شعرها الأسود الطويل بذراع واحد، فكانت المهمة شاقة عليها، اقترب منها حتى جلس خلفها، ثم إلتقط منها الفرشاة دون كلام ليبدأ هو بتصفيفه لها … لا ليس لهذه الدرجة !
هكذا ستشك حقًا أنه أيوب الجلف الذي تعرفه، إن كانت تعلم أن تلك الحادثة ستغيره لهذه الدرجة لكانت أحرقت الشقة بنفسها منذ زمن .. رددت تلك الكلمات في نفسها بسخرية مبتهجة.
فيما كان أيوب في حالة غريبة من الاستسلام لكل ما يُمليه عليه قلبه الذي لا زال مصبوغًا بخوف تكرار الفقدان والندم.
بدا مستمتعًا بمداعبة خصلاتها الناعمة، ولا يدري من أين تسللت له رغبة خفية حارقة في مداعبة رقبتها بشفتيه!
استسلم لذلك النداء دون مقاومة تُذكر، ومال يطبع على رقبتها قبلات رقيقة شغوفة كالفراشات لتدغدغ أعماقها، حاولت السيطرة على الرعشة التي أصابت عامودها الفقري، وهي تبعد رقبتها قليلًا عن مرمى شفتيه مرددة بخفوت شديد متوتر:
-أنت مش هتنزل المحل ولا إيه؟
هز رأسه نافيًا وشيء من المشاكسة ينضم لنغمة صوته الجادة:
-لا محل إيه بجا، أنا بفكر أشتغل في التمريض بما إني طلع عندي خبرة مدفونة، بعمل اسعافات أولية وبرعى المرضى.
استدارت غرام نحوه تسأله وهي رافعة حاجبيها بمفاجأة واضحة:
-أنت بتعرف تعمل اسعافات أولية؟
رد كاذبًا بجدية ماكرة:
-طبعًا، امال مين اللي عملك لما طلعتك من الحريج؟
صدح صوت ساخر داخله أنه لم يكن في حالة تسمح له بادراك وجوب عمل اسعافات أولية اصلًا من فرط رعبه حينها، فكل ما قام به كان ضغطه على قفصها الصدري لتتنفس!
ولكنه تنتابه رغبة جديدة غريبة عليه في أن يشاكسها ورغبة اخرى يحاول كبحها.

 

سألته باستنكار وكأنها تريد التأكد من صحة ما يقول، فهي كانت تظن أن ليس خبرة بما يخص التمريض والطب على الإطلاق:
-عملت إيه يعني؟
اقترب منها كثيرًا حتى صارت شفتاه على اعتاب شفتيها، ثم همس بخشونة:
-تنفس صناعي.. كدا.
وفي الثانية التالية كانت شفتاه تلتقي بشفتيه في وصال روحي مخضب بشغف لاهب، وهو مَن يأخذ ذلك التنفس وليس هي، يمتص رحيق الحياة بعدما أكتشف أنه بين شفتيها ليُعيد الحياة لنفسه التي كانت قاحلة مهجورة….
شعرت غرام بيديه التي راحت تضمها لها وتحط كترحال عاطفي مزلزل فوق جسدها، فابتعدت عنه لاهثة تغمغم:
-أيوب لا مش آآ….
ودت لو تخبره أنها لا تريد، لا تريد ذلك الوصال المؤقت فيعود بعدها ليتقوقع في قوقعة القسوة عازفًا عنها وعن التعامل معها نهائيًا، ليس بعد ما رأته منه مؤخرًا…
ولكنه قاطعها حين إلتقط شفتيها من جديد بإصرار وحاجة مُلحة تكاد تقتله لها، للشعور بها من جديد هنا.. بين ذراعيه.. ملكه ولن تضيع منه.
وهمس لها بصوت صادق متحشرج من فرط العاطفة:
-أنا محتاچك چدًا.
فلم يكن الاستسلام له خيار بل أصبح قرار حاسم من قلبها الذي أعلن خضوعه لمالكه.
****
ليلًا في المنزل الذي تقيم به ليلى ووالدتها…
أمسكت ليلى بهاتفها الذي صدح صوته معلنًا وصول رسالة، فتحتها لتجدها من ظافر الذي لم يتوان عن محاولة مصالحتها وكسب ودها من جديد طوال الأيام السابقة التي مرت، إتسعت عينيها مذهولة وهي تقرأ الرسالة التي كان فحواها
” أنا تحت بيتكم مستنيكي انزليلي، وماتتأخريش عشان لو مانزلتيش هاطلعلك أنا ومش هيهمني أي حد يشوفني ”
نهضت تتحرك في الغرفة والمفاجأة تجمد أفكارها، فهذه المرة الاولى التي يأتي بها ظافر لمنزلهم حتى ظنت أنه لا يعرف عنوانه حتى !
حسمت أمرها وارتدت اسدال الصلاة ونزلت عازمة على توبيخه بشدة..

 

رأته يقف في البهو الواسع أمام منزلهم ففتحت له الباب ودلفا لداخل حدود منزلهم الذي كان كبير كمعظم بيوت البلدة، ولكن قبلها ظلت تنظر لتتأكد من عدم مرور أحدهم، ثم نظرت نحوه قائلة من بين أسنانها بغيظ:
-إيه عايز؟ چاي هنا ليه؟ أنت عارف الساعة كام؟
رد ظافر ببساطة خبيثة أغاظتها أكثر:
-أعمل إيه ما أنتي مش بتردي على تليفونك، وأنا عايز أشوف حماتي أصلها وحشتني جوي.
كانت تعلم أنه لا يقصد والدتها بل يقصدها هي، وقبل أن ترد كان يمد لها باقة الورد التي كان يحملها، متشدقًا بعذوبة:
-اتفضلي.
فتابعت بابتسامة سمجة مقصودة:
-مابحبش الورد.
رفع كلا حاجبيه بعدم تصديق:
-هو في واحدة مابتحبش الورد ؟!
هزت رأسها مؤكدة بنفس الابتسامة الخالية من المرح:
-اه أنا.
فألقى ظافر باقة الورد بعيدًا قبل أن يقول ببساطة وابتسامة كبيرة:
-وأنا كمان مابحبهوش.
ثم اقترب منها خطوة ليضيف بنبرة ذات مغزى ونظراته تتوهج:
-كفاية عليا وردة واحدة بس في حياتي.
لا تدري لِمَ تذكرت الان مساومة زوج والدتها الحقير بطلاقها من ظافر مقابل طلاق والدتها، بعدما فعله فيه ظافر على حد قوله، فسألته على الفور لتغير مجرى الحوار:
-هو أنت عملت إيه بالظبط لهاشم؟
تجهمت ملامحه فجأة وعاد العبوس ليسيطر عليها وهو
يستطرد بجدية مرحة أضحكتها:

 

-بكلمك على الورد إيه اللي چاب سيرة الصبار دلوجتي؟!
ثم هز كتفيه مرددًا ببراءة زائفة:
-هكون عملتله إيه ماعملتلهوش حاچة أنا هزجته شوية بس.
رغم أنها لم تقتنع إلا أنها آثرت الصمت، ثم حثته بحزم على المغادرة:
-طب بعد اذنك اتفضل امشي يا استاذ ظافر، وچودك دلوجتي مايصحش.
استرسل مصطنعًا وجه خشبي جاد:
-عيب كدا على فكرة أنا كنت چايلك في شغل وحاچة مهمة.
فاستفسرت بتوجس:
-حاچة إيه؟
ضيق عينيه وهو يواصل بمسكنة بريئة لم تخدعها:
-أصل أنا تعبان جوي، والدكتور جالي لازم ممرضة ترعاك، فجولت أنتي أولى من الغريب.
رمقته بنظرات حانقة رغم أن الانثى داخلها مستمتعة بمحاولاته تلك وتمنعها، فتابع على الفور بصدق:
-والله العظيم ما بكدب أنا عندي السكر.
تنحى الحنق جانبًا وتجلت المفاجأة في حدقتيها تزامنًا مع بذرة نابتة من القلق وهي تسأله بعفوية:
-بچد؟ من امتى؟
انتشى برؤية طيف القلق الذي سارعت لتخفيه خلف الحزم الزائف، ورد:
-من زمان.
فاستعادت صلابتها وهي تقول بصوت أجش:
-حتى لو عندك السكر، أنت زي الفل اهو.
اقترب منها ظافر أكثر وبدأت هي تعود للخلف بتلقائية حتى إلتصقت بالباب من خلفها، وأمسك يدها ليضعها عند قلبه مباشرةً قائلًا بنبرة شقية:
-انتي ازاي مش حاسه بجلبي اللي واچعني.
غمغمت بارتباك دب بها دون أن تجد القدرة على ردعه خاصةً في ظل اقترابه المُربك منها:
-ظافر لو سمحت.

 

فاقترب أكثر وهو يهمس بخشونة مشتعلة ملتاعة خرجت من أعماق قلبه المحترق بالشوق:
-ظافر مشتااااج يا شيكولاته والشوج دباح.
لم تستطع منع اقتحام كلماته لأسوار صلابتها الواهية وطرقها لأبواب قلبها بشدة حتى تضخمت دقاته، فيما أكمل ظافر يداعبها بمرح:
-تعالي اكسبي فيا ثواب، دا الدكاترة مابيفهموش بيجولولي ابعد عن الحلويات، مايعرفوش إني ماجدرش أبعد عنك وأنتي علاچي.
قاومت بشدة ابتسامة صغيرة ألحت على عبوس شفتيها، وقالت بنبرة ارادتها فظة ولكنها خرجت خافتة باهتزازة ارتباك فاضحة:
-أنا لسه عند رأيي وشايفة إنك كويس ومش محتاچ حاچة.
-هايهون عليكي تسيبيني كدا وأنا تعبان، فين الضمير فين المبادئ وشرف المهنة، فين …..
وقطع كلماته غارقًا في الشيكولاتة الذائبة بعينيها التي يعشقها وهي تنظر له باستكانة مغرية، وتابع بتلقائية مرحة لذيذة:
-فين قاعة اللؤلؤة بسرعة!
هذه المرة إنفلتت ضحكتها الرقيقة وهي تغطي فمها بيدها كعادتها، وتشبع ظافر من رؤية ضحكتها التي أكتشف أنه لم يرى أجمل منها، ثم تنحنحت بحرج وهي تتلفظ بصرامة فُضح كذبها:
-طب امشي لو سمحت يلا.
ولكنه قبض على يديها بين كفيه وهو يردف بإلحاح:
طب خوفتي عليا ؟ جوليلي إنك خايفة عليا وأنا أمشي.
عقدت حاجبيها باستهجان واستنكار معترض، فتابـع:
-لا لا أنا كدا متسرع، خلاص هاتي بوسة وهمشي.

 

إتسعت عينيها ذهولًا وهي تعض على شفتيها حرجًا، فشعر من جديد بتلك المفرقعات العاطفية اللاهبة تتفجر في دماؤه، اقترب منها أكثر حتى انحسرت المسافة بينهما وراح يتمتم بصوت درامي يائس يحمل تهديد زائف:
-ما يا أهلي وأهلك يزفونا لقاعة اللؤلؤة، يا بوليس الأداب يزفنا للتخشيبة، جولتي إيه؟ أنا بجول قاعة اللؤلؤة أحسن ونجصر الشر.
احترقت وجنتيها المكتنزة بالخجل ودفعته بقوة نحو الباب دون أن تنطق بحرف، فيما كان ظافر يضحك مستمتعًا بخجلها، متيقنًا أنها ستلين… بل ستذوب كذوبان عينيها البُنية في حضرته، تحتاج فقط الصبر وليعينه الله.
****
بعد فترة…
اتجهت “ليلى” للمستشفى لتطمئن على حالة الجد سالم بعد أن غابت عنه ولم تزره لعدة أيام، رغم أنها لا تقابله فهو لا زال في تلك الغيبوبة، ولكنها تشعر بوجوب مجيئها واطمئنانها عليه، ربما لأنها لم تنسى أنها كانت عامل من عوامل وصوله لتلك الحالة التي هو عليها !
وصلت أمام غرفة العناية المركزة التي كان يقبع بها، فاتسعت عينيها وهي تلمح احدهم يعيطها ظهره ويفعل شيء للجد بينما وجهه ملثم، فأصابها فزع حقيقي ولم تتردد وهي تدلف بسرعة صارخة فيه:
-أنت مين وبتعمل إيه؟ إلحجو……

 

ولكنه قطع صرختها كاتمًا فمها بيده ثم دفعها بعنف بعيدًا عنه قبل أن يركض خارجًا من الغرفة، فصرخت ليلى بهلع وهي تنهض لتتفحص الأجهزة التي أصدرت عدة أصوات تدل أن شيئًا خاطئ قد حدث…
وفي غمرة انشغالها بالتأكد من سلامة “سالم” وجدت ظافر خلفها مصدومًا… فلم تدري للوهلة الاولى أ هو مصدومًا مما أصاب جده ام من كونها هي مَن أمسك بها بمفردها في الغرفة تعبث بالأجهزة التي تنذر بالخطر ؟!!!!
****

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نبع الغرام)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى